بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس في (21 من المحرم 898 هـ = 25 من نوفمبر 1492م) بدأ الأسبان يهاجمون الشمال الأفريقي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، في ظل حركة صليبية تدعو إلى الضغط على المسلمين في شمال أفريقيا باحتلال ثغورهم، وتحويلهم إلى المسيحية إن كان ذلك ممكنًا.
احتلال أسباني
ونجح الأسبان في دخول الجزائر والاستيلاء على "المرسى الكبير" سنة (911هـ = 1505م) ووهران سنة (915 هـ = 1509م) وبعد احتلالهما قاموا بتنظيم أمورهما، واعتبروهما أيضًا أسبانيين، وأخضعوهما لسلطة حاكم عسكري، ونشروا فيهما الجند والمرتزقة، ووطنوا بهما عددًا من المدنيين المجرمين والمنفيين من (أسبانيا).
وفي الوقت الذي توسع فيه الأسبان في احتلال الثغور الإسلامية المطلة على غرب البحر المتوسط، ظهرت قوة بحرية إسلامية، خاضت جهادًا عظيمًا ضد السفن الأسبانية، ودفعت خطرهما، وكان يقود حركة الجهاد الأخوان (بابا عروج) خير الدين برباروسا، ووتطورت تلك الحركة فتمكنت من تحرير الجزائر بمساعدة الدولة العثمانية، وإخضاع الملاحة في البحر المتوسط للبحرية الإسلامية، ومد النفوذ العثماني في الشمال الأفريقي.
أطماع فرنسية
وظلت الجزائر تابعة للدولة العثمانية، حتى بدأت فرنسا تتطلع باهتمام بالغ إلى احتلال الجزائر، وكان"نابليون بونابرت" يحلم بجعل البحر المتوسط بحيرة فرنسية، وأخذ يخطط لقيام حملة كبيرة تمكنه من ضم دول المغرب العربي، وإقامة مستعمرات عسكرية فرنسية، وطلب من الفرنسيين الذين سبق لهم العيش في "الجزائر" أن يمدوه بمعلومات عنها وعن سكانها وتحصيناتها، ولم يكتف بذلك، وإنما كلف وزير البحرية بأن يبعث أحد جنوده الأكفاء الذين يمتازون بالروح القتالية والمهارة الهندسية إلى الجزائر سرًا، ليدرس أحوال الجزائر العسكرية عن كثب، ويوافيه بتقرير شاف، وقد نجح هذا المبعوث في كتابة تقرير واف عن تحصينات الجزائر، وطبيعة أراضها، وعدد قواتها، وزيّن الحملة المقترحة، والمدة التي تستغرقها لتحقيق هدفها، وعدد القوات اللازمة للقيام بالحملة، غير أن انشغال نابليون بأطماعه في أوروبا أرجأ مشرعه.
حادثة المروحة
تولى الباشا حسين حكم الجزائر سنة (1234 هـ = 1818م) وكان رجلاً مشهورًا بالغيرة على الدين، واليقظة الدائمة، والميل إلى الأهالي، فطلب من "دوقال" قنصل فرنسا أن يبلغ حكومته بضرورة الإسراع في تسديد الديون التي عليها للجزائر.
وجرت العادة أن يقوم قناصل الدولة الأجنبية بزيارة (الباشا) لتهنئته بعيد الفطر (2 شوال 1243 هـ = 29 من إبريل 1827م) وكان القنصل الفرنسي حاضرًا، ودار حديث بينه وبين الباشا حول الديون، فأساء القنصل الفرنسي الرد، فأمره الباشا بالخروج من حضرته، لكنه لم يتحرك فقام الباشا بضربه بالمروحة التي كانت في يده، فكتب القنصل إلى بلاده بما حدث، وادعى أنه ضُرب ثلاث مرات.
اتخذت فرنسا من هذه الحادثة ذريعة لاستغلالها لمصلحتها، وبخاصة بعد أن كتب القنصل تقريره إلى حكومته في الليلة نفسها، وطلب منها اتخاذ الوسائل اللازمة للمحافظة على كرامتها في شمال أفريقيا، وقرأ وزير الخارجية الفرنسية ذلك التقرير في مجلس الوزراء، وطلب إجبار الجزائر على الاعتذار عن الإهانة التي لحقت بالملك في شخص ممثله، ولو أدى ذلك إلى استخدام القوة.
أرسلت فرنسا قطعة من أسطولها إلى الجزائر في (18 ذي القعدة 1243 هـ = 12 من يونيو 1827)، وجاء قبطانها إلى الباشا وطلب منه أن يأتي معه إلى السفينة ويقدم اعتذارا شخصيًا للقنصل الفرنسي، ولما كان هذا الطلب متعذرًا، وأن الباشا لن يوافق عليه، فإن القبطان تقدم إلى الباشا باقتراحين آخرين: إما أن يعتذر للقنصل بمحضر الديوان وفي وجود القناصل الأجانب جميعًا، وإما أن يرسل الباشا بعثة برئاسة وزير بحريته إلى قطعة الأسطول الفرنسي، ليعتذر باسم الباشا إلى القنصل، وفي حالة عدم استجابة الباشا لأحد الاقتراحات الثلاثة يُعلن الحصار رسميًا على الجزائر.
لم يقبل الباشا أيًا من الاقتراحات الثلاثة؛ فضرب الفرنسيون الحصار على الجزائر وظل مضروبًا ثلاث سنوات، ولم يكن حصارًا هينًا لفرنسا، وإنما كان متعبًا ومملوءا بالمخاطر، وبخاصة في الفترة الأخيرة، حيث نجح الجزائريون في أسر بعض رجال القطع البحرية الفرنسية وقتلهم، وكلف هذا الحصار الخزينة الفرنسية سبعة ملايين فرنك سنويًا، وأصاب التجارة الفرنسية في البحر المتوسط بخسائر كبيرة، ومن ثم لم يعط الحصار نتائج إيجابية، ولم يجبر الباشا على تقديم اعتذار لفرنسا دون أي شروط.
الحملة الفرنسية
أدى فشل المفاوضات بين الطرفين، وعجز الحصار البحري على الجزائر، والرغبة في توجيه نظر الشعب الفرنسي إلى تحقيق نصر خارجي إلى إعلان مجلس الوزراء الفرنسي في جلسة (5 شعبان 1245 هـ = 30 من يناير 1830) القيام بالحملة ضد الجزائر، ثم قام الملك بإصدار مرسوم بالتعبئة العامة، وأعلن في خطاب العرش يوم (7 من رمضان 1245هـ = 2 من مارس 1830م) عزمه على مهاجمة الجزائر، مدعيًا أن هذه الحملة لم تقم إلا للانتقام من الإهانة التي لحققت بالشرف الفرنسي، وأصر على أنها "حملة مسيحية على بلاد البرابرة المسلمين"، وأنها في صالح كل العالم المسيحي.
تجمعت القوات البرية والبحرية مع معدات الحرب والذخائر في المنطقة الواقعة بين طولون ومرسيليا وبلغ مجموع رجال الحملة (37600) جندي، واشتملت على (45000) حصان، و(91) قطعة مدفعية، ووصل عدد قطع الأسطول إلى (6000) قطعة، منها (103) قطع حربية.
أبحرت الحملة من ميناء طولون ونزلت في منطقة سيدي فرج في (23 ذي الحجة 1245 هـ = 14 من يونيو 1830م) دون مقاومة وقام الفرنسيون بتحصين منطقة إنزالهم، لاتخاذها قاعدة عسكرية لهم، وتصبح نقطة تموين من الأسطول أثناء العمليات الحربية.
وعلى الرغم من أن موقع "سيدي فرج" لا يبعد عن مدينة الجزائر إلا بنحو 25 كيلومترا، فإن الفرنسيين اضطروا إلى خوض ثلاث معارك طاحنة حتى تمكنوا من احتلال مدينة الجزائر في ( 14 كم المحرم 1246 هـ = 5 يوليو 1830) بعد أن وقّع الباشا معاهدة تسليم المدينة، وفق بنود اتفق عليها الطرفان، تضمنت تسليم قلعة القصبة، وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة إلى الجيش الفرنسي، وأن يتعهد القائد العام الفرنسي لباشا الجزائر بأن له الحرية في أن يذهب هو وأسرته إلى المكان الذي يختاره، وتعهد بحمايته وتعيين حرس له لو فضل البقاء في الجزائر، وختمت المعاهدة بأن العمل بالدين الإسلامي سيظل حرًا، ولن تمس حرية السكان مهما كانت طبقتهم ودينهم وأملاكهم.
دخلت القوات الفرنسية مدينة الجزائر في هرج ودون أي نظام أو ضبط، وأخذوا في القتل والسلب والنهب في أحياء متعددة من المدينة، واستولى الفرنسيون على الخزانة، وأعلنوا أنه لا توجد سجلات عن محتوياتها، ثم أبلغوا الحكومة في باريس أنهم وجدوا ما قيمته (48700000) فرنك من الذهب، وكان هذا المبلغ يكفي لتغطية نفقات الحملة التي وصلت إلى (43500000) فرنك ذهبي.