- أقبل مريد ، وكانت تبدو عليه السرعة والاهتمام .. ودخل دون أين يتلفت إلى حسناء ، وتوجه إلى غرفته .. فأسرعت في أثره . فإذا به قد أعدَّ كل شيء ، وحزم أمتعته ولم يبق إلا أن يحملها ويذهب .
فاندهشت لهذا ، ولم تصدق عينيها ، وهتفت بجنون : إلى أين يا مريد ؟ ودون أن ينظر إليها قال : سأغادر بغداد .
وهتفت به : وتتركني يا مريد ؟ فأجاب بكل هدوء : لقد تبت يا سيدتي.. أريد أن أذهب إلى بلد لا يعرفني فيها أحد .. أريد أن أهجر الماضي بكل ما فيه من تعاسة وهوان ..
- ومضى مريد يقول : منذ التقيت بيسار لأول مرة ، وأنا أفكر في الكلمات التي قالها لي .. قال : بل أنت مريد .. المريد هو صاحب الإرادة القوية .. اتق الله واجتنب المعاصي .. وفكرت في نفسي ، وفكرت فيك ، وفكرت في يسار
- سيدتي ماذا ينفعك هذا المدعو حكيم ، إن ألاعيبه ستعود بالشر العظيم .. ولا يغرنك بعض ما ترين من نزول يسار .. فإنه لا ينزل إلا ليعلو ، ولا يدنو إلا ليبتعد ولا يهبط إلا ليحلِّق .. إنه رجل يحاسب نفسه بعد كل هفوة يرتكبها .. ولا يزال بها حتى يقيمها على الجادة البيضاء . وسكت مريد ، وكان يبدو كالبركان الذي ضاق بالنار المتأججة في صدره فأراد أن يقذفها ..
قالت حسناء : هل تستطيع أن تنتظر.. فلعلي أجيء معك . فهزَّ رأسه بالموافقة
تفكرت حسناء في مصيرها .. ويسار .. لا .. إنه لن يتزوجها .. إن فورة حبه ستنطفئ إنه كما قال مريد .. سوف يحاسب نفسه حتى يقيمها على الجادة .. وخيِّل إليها كأنها تسمع صوت حبيب بن مسعود وهو يقول : إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد لماذا تركض وراء السراب ؟ سوف تبتعد عن طريقه .. قالت بإصرار : أنا أيضًا سأتوب . وسألته قائلة : متى تريد أن نذهب ؟
فأجاب : غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
ثم ودَّعها وهو يقول : أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
فلوَّحت بيدها وهي تقول : سأكون في انتظارك .
أما حكيم فقد أقنع يسار بالحضور إلى مكان لهوهم في دار حكيم بعد العشاء فهناك سيتمكنن من رؤية حسناء هكذا قال حكيم
وبعد العشاء نظر حكيم إلى حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير : لقد وقع صاحبك يا حبيب ؟ وقال وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب : إنه سيأتي إلينا هذه الليلة , ونظر حكيم في وجه حبيب وهو يقول : مستحيل .
وقبل أن ينتهي حبيب من كلمته ، طُرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول : هذا هو صاحبك قد حضر ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم .. وهتف حكيم بسرور : مرحبا بيسار . وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه مندهشا . ودخل يسار مطرقًا خجلاً ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
ومضى حكيم يدير الحديث وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
فأجاب يسار بهمس : إنني في أسوأ حال .. وضحك حكيم وهو يقول : إنه الحب يا أخي ..
وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم : إنني لم أرها منذ مدة ..
فنهض حكيم وقد استخفَّه الطرب وقال : ستراها اليوم .. إنها ستأتي كالعادة في مثل هذا اليوم .
وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
- خذ .. اشرب .. فالتفت يسار وهو يقول : أنا لا أشرب الخمر ..
وضحك حكيم وهو يمد يده بالكأس ويقول : اشرب .. اشرب يا يسار .. إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا .
خيل إلى يسار في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به. والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب .. اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار . ، وتذكر في تلك اللحظة .. كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له , مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن . وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) . كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه .. إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له .. هاهو يذكِّره .. ويحذِّره .. غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت . ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا .. ورمى الكأس في وجه حكيم . وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها . وانهال على حكيم ضربًا .. وأظلمت الدنيا في عينيه .. وانقلبت المائدة . ولم يقف في وجه يسار شيء . لقد قذف بكل ما في نفسه مرة واحدة .. لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود .. وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه : (( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا .. ولمعت الفوانيس بنور جميل .. وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
الدنيا كلها ، ترحب به .. أين كان كل هذه المدة ؟ ومضى في طريقه إلى المسجد .. إنه يريد أن يرى الشيخ ..
أن يجلس بين يديه فيشكره .. وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلِّمين عليه .. ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة .. ولا أحدًا من الناس .. كان يريد أن يصل إلى المسجد .. أن يعود إلى سابق عهده .. أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب .. لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه .. وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ القرآن .. وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة , وأبو الحسن .... وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة .. وصاحبه أحمد الذي لم يكن يفارقه في ذهابه , وغيرهم .. وغيرهم .. كانوا يحيطون به .. يحبونه . بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه ! أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد.. وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل إلى الشيخ .. وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول : ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك .. ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال : لقد طال أجلي وقلَّ عملي .. إنه لا ينسى هذا .. ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول : الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا. وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت : لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك . وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. حتى شكت لأمها فقالت : لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟ والشيخ .. لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد .. وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل .. إنه في طريقه إليه .. لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم .. كيف ابتعد كل هذه المدة ؟ لقد كان في رحلة خطيرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه .. إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات . لقد كانت ملء السمع وملء البصر .. ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
وتقدم بخطوات بطيئة مترددة .. لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب .. وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه .. إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه .. كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان .. كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى .. لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة .. ومع التكبيرة الأولى .. وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول : اللهم افتح لي أبواب رحمتك .. إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار .. أين التائبون .. الآيبون .. النادمون .. كان المصلون قد خرجوا لكن لعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء .. وصدق ظنه ..
كان الشيخ جالسا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم .. وتقدم يسار .. خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا .. واقترب منه .. فسلَّم عليه .. وشعر بيده توضع على كتفه .. وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم .
وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم .. أن يقص على الشيخ ما جرى له .. ولكنه لم يستطع .. لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع . وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى .